فصل: تفسير الآية رقم (152):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}.
قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا}: الكاف من قوله: {كما} فيها قولان:
أظهرها: أنها للتشبيه.
والثاني: أنها للتعليل، فعلى القول الأول تكون نعت مصدر محذوف.
واختلفوا في متعلقها حينئذ على خمسة أوجه:
أحدها: أنها متعلقة بقوله: {ولأتم} تقديره: ولأتم نعمتي عليكم إتمامًا مثل إتمام الرسول فيكم، ومتعلّق الإتمامين مختلف، فالأول بالثواب في الآخرة، والثاني بإرسال الرسول في الدنيا، أو الأول بإيجاب الدعوة الأولى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أَمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 138].
والثاني بإجابة الدعوى الثانية في قوله: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ} [البقرة: 129] قاله ابن جرير، ورجحه مكي؛ لأن سياق اللفظ يدلّ على أن المعنى: ولأتم نعمتي عليكم ببيانه ملة أبيكم إبراهيم، كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولًا منكم.
والثاني: أنها متعلّقة ب {تهتدون}، تقديره: يهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولًا، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقيق والثبوت أي: اهتداء متحققًا كتحقيق إرسالنا.
الثالث: وهو قول أبي مسلم: أنها متعلقة بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، أي: جعلًا مثل إرسالنا.
وهذا بعيد جدًا؛ لطول الفصل المؤذن بالانقطاع.
الرابع: أنها متعلقة بما بعدها وهو {فاذكروني} قال مجاهد وعطاء والكلبي: وروي عن علي رضي الله عنه، واختاره الزَّجاج: كما أرسلنا فيكم رسولًا تعرفونه بالمصدق فاذكروني بالتوحيد والتصديق به، وعلى هذا فالوقف على {تهتدون} جائز.
قال الزمخشري: كما ذكرتكم بإرسال الرسل، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، فيكون على تقدير مصدر محذوف، وعلى تقدير مضاف أي: اذكروني ذكرًا من ذكرنا لكم بالإرسال، ثم صار: مثل ذكر إرسالنا، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فإنه يكرمك، والفاء غير مانعة من ذلك.
قال أبو البقاء: {كما} لم تمنع في باب الشرط يعني أن ما بعد فاء الجزاء يعمل فيما قبلها.
وقد ردّ مكي هذا بأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه و{فاذكروني} قد أجيب بقوله: {أذكركم} فلا يتعلق به ما قبله.
قال: ولا يجوز ذلك إلا في التشبيه بالشرط الذي يجاب بجوابين، نحو: إذا أتاك فلان فأكرمه تَرْضَهْ، فيكون {كما}، وفأذكركم جوابين للأمر، والاول أفصح وأشهر، وتقول: كما أحسنت إليك فأكرمني فيصح أن تجعل الكاف متعلقة بأكرمني إذ لا جواب له.
وهذا الشرط منعه مكّي قال أبو حيان: لا نعلم خلافًا في جوازه.
وأما قوله: إلا أن يشبه بالشرط، وجعله {كما} جوابًا للأمر، فليس بتشبيه صحيح، ولا يتعقل، وللاحتجاج عليه موضع غير هذا الكتاب.
قال أبو حيان: وإنما يخدش هذا عندي وجود الفاء، فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتبعد زيادتها. انتهى.
وقد تقدم قول أبي البقاء في أنها غير مانعة من ذلك.
الخامس: أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من {نعمتي} والتقدير: ولأتم نعمتي مُشبِهَةً إرسالنا فيكم رسولًا، أي: مشبهة نعمة الإرْسَال، فيكون على حذف مضاف.
وقال مكي: في إعراب المشكل: فإن شئت جعلت الكاف في موضع نصب على الحال من الكاف والميم في عليكم.
وأما على القول بأنها للتعليل، فتتعلّق بما بعدها وهو قوله: {فاذكروني} أي: اذكروني لأجل إرسالنا فيكم رسولًا، وكون الكاف للتعليل واضح، وجعل بعضهم منه: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]، وقول الآخر: الراجز.
لاَ تَشْتُمِ النَّاس كَمَا لاَ تُشْتَم

أي: لا تَشتم لامتناع النَّاس من شَتمك.
وفي ما المتّصلة بهذه الكاف ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها مصدرية، وقد تقدم تحريره.
والثاني: أنها بمعنى الذي، والعائد محذوف، و{رسولًا} بدل منه، والتقدير: كالذي أرسلناه رسولًا، وهذا بعيد جدًا.
وأيضًا فإن فيه قوع ما على آحاد العقلاء، وهو قول مرجوح.
الثالث: أنها كافة للكاف كهي في قوله: الوافر:
لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدِ ** كَمَا النَّشْوَانُ وَالرَّجُلُ الحَلِيمُ

ولا حاجة إلى هذا، فإنه لا يُصَار إلى ذلك إلاّ حيث تعذّر أن ينسبك منها ومما بعدها مصدر، كما إذا اتصلت بجملة اسمية كالبيت المتقدم.
و{منكم} في محلّ نصب؛ لأنه صفة ل {رسولًا}، وكذلك ما بعده من الجمل، ويحتمل أن تكون الجمل بعده حالًا لتخصيص النكرة بوصفها بقوله: {منكم}، وأتي بهذه الصفات بصيغة المضارع؛ لأنه يدل على التجدد والحدوث، وهو مقصود هاهنا، بخلاف كون منهم، فإنه وصف ثابت له.
وقوله: {فيكم} و{منكم}، أي: من العرب، وفي إرساله فيهم رسولًا، ومنهم نِعَمٌ عليهم عظيمة؛ لما لهم فيه من الشَّرَفِ، وأن المشهور من حال العرب الأَنَفَةُ الشديدة من الانقياد إلى الغير، فبعثه الله- تعالى- من واسطتهم ليقرب قبولهم.
وقوله: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ} فيه نِعَمٌ عليكم عظيمة؛ لأنه معجزة باقية تتأذى به العبادات ومستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (152):

قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن الله تعالى كلفنا في هذه الآية بأمرين: الذكر، والشكر، أما الذكر فقد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالجوارح، فذكرهم إياه باللسان أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرؤا كتابه، وذكرهم إياه بقلوبهم على ثلاثة أنواع.
أحدها: أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته، ويتفكروا في الجواب عن الشبهة القادحة في تلك الدلائل.
وثانيها: أن يتفكروا في الدلائل الدالة على كيفية تكالي فهو أحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده، فإذا عرفوا كيفية التكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد، وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم.
وثالثها: أن يتفكروا في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس، فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له، أما ذكرهم إياه تعالى بجوارحهم، فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها، وعلى هذا الوجه سمى الله تعالى الصلاة ذكرًا بقوله: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} فصار الأمر بقوله: {اذكروني} متضمنًا جميع الطاعات، فلهذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال: اذكروني بطاعتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه، أما قوله: {أَذْكُرْكُمْ} فلابد من حمله على ما يليق بالموضع، والذي له تعلق بذلك الثواب والمدح، وإظهار الرضا والإكرام، وإيجاب المنزلة، وكل ذلك داخل تحت قوله: {أَذْكُرْكُمْ}. انتهى.

.قال البقاعي:

{فاذكروني} أي لأجل إنعامي عليكم بهذا وبغيره {أذكركم} فأفتح لكم من المعارف وأدفع عنكم من المخاوف ما لا يدخل تحت حد {واشكروا لي} وحدي من غير شريك تشركون معي أزدكم، وأكد هذه الإشارة بقوله: {ولا تكفرون} أي أسلبكم. قال الحرالي: ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ولوقائعهم ولأيامهم جعل سبحانه وتعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون، كما جعل كتابه عوضًا من إشعارهم وهز عزائهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم. انتهى.

.من أقوال العلماء في الآية الكريمة:

قال ابن عبّاس: اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي بيانه قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} الآية.
سعيد بن جبير: بطاعتي أذكركم بمغفرتي بيانه {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
فضيل بن عيّاض: فاذكروني بطاعتي أذكركم بثوابي بيانه {إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملًا أولئك لهم جنّات عدن} وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من أطاع الله فقد ذكر الله وإنّ قلّت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن».
وقيل: اذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالجنّات والدرجات بيانه: {وبشّر الّذين آمنوا} إلى {جنات}.
وقال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه: كفى بالتوحيد عبادة وكفى بالجنّة ثوابًا.
ابن كيسان: اذكروني بالشكر أذكركم بالزّيادة: بيانه قوله: {لَئن شَكَرْتُمْ زِيدَنَّكُمْ}.
وقيل: اذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها.
قال الأصفي: رأيت أعرابيًا واقفًا يوم عرفة بالموقف وهو يقول: ضجّت إليك الأصوات بضروب اللّغات يسئلونك الحاجات وحاجتي إليك أن تذكرني عند البلى إذا نسيني أهل الدّنيا.
وقيل: اذكروني بالطّاعات أذكركم بالمعافاة ودليله {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيِّبَةً}.
وقيل: اذكرونى في الخلاء والملاء أذكركم في الجلاء والملأ بيانه ما روي في بعض الكتب إنّ الله قال: «أنا عند من عبدني، فليظن بي ما شاء، وأنا معه إذا ذكرني، فمن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في الملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقربّ إليّ شبرًا تقرّبت له ذراعًا، ومن تقرّب إليّ ذراعًا، تقرّبت إليه باعًا ومن أتاني مشيًا أتيته هرولة، ومن أتاني بقراب الأرض فضّة أتيته بمثلها مغفرة بعد أن لا يُشرك بي شيئًا».
وقيل: اذكرونى في النّعمة والرّخاء أذكركم في الشّدة والبلاء بيانه قوله: {فلولا إنّه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}.
قال سلمان الفارسي: إنّ العبد إذا كان له دُعاء في السّر؛ فإذا انزل به البلاء قالت الملائكة: عبدك نزل به البلاء فيشفعون له فينجيه الله، فإذا لم يكن له دُعاء قالوا: الآن فلا تشفعون له. بيانه لفظة فرعون {الآن وقد عصيت من قبل}.
وقيل: اذكرونى بالتسليم والتفويض أذكركم بأصلح الأختبار. بيانه {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}.
وقيل: اذكرونى بالشوق والمحبّة أذكركم بالوصل والقربة.
وقيل: اذكرونى بالحمد والثناء أذكركم بالجزاء، وقيل: اذكرونى بالأوبة أذكركم بغفران الحوبة، وقيل: اذكرونى بالدُّعاء أذكركم بالعطاء، اذكرونى بالسؤال أذكركم بالنوّال، اذكرونى بلا غفلة أذكركم بلا مهلة، اذكرونى بالندّم أذكركم بالكرم، اذكرونى بالمعذرة أذكركم بالمغفرة، اذكرونى بالإرادة أذكركم بالأفادة، اذكرونى بالتنصّل أذكركم بالتفضل اذكرونى بالإخلاص أذكركم بالخلاص، اذكرونى بالقلوب أذكركم بكشف الكروب، اذكرونى بلا نسيان أذكركم بالأمان، اذكرونى بالأفتقار أذكركم بالاقتدار، اذكرونى بالأعدام والاستغفار أذكركم بالرّحمة والإغتفار، اذكرونى بالأيمان أذكركم بالجنان، اذكرونى بالأسلام أذكركم بالأكرام، اذكرونى بالقلب أذكركم برفع التعجب، اذكرونى ذكرًا فانيًا أذكركم ذكرًا باقيًا، اذكرونى بالابتهال أذكركم بالأفضال، اذكرونى بالظل أذكركم بعفو الزلل، اذكرونى بالاعتراف أذكركم بمحو الاقتراف، اذكرونى بصفاء السّر أذكركم بخالص البّر، اذكرونى بالصّدق أذكركم بالرّفق، اذكرونى بالصفَو أذكركم بالعفو، اذكرونى بالتعظيم أذكركم بالتكريم، اذكرونى بالتكبير أذكركم بالتطهير، اذكرونى بالتمجيد أذكركم بالمزيد، اذكرونى بالمناجاة أذكركم بالنجاة، اذكرونى بترك الجفاء اذكركم بحفظ الوفاء، اذكرونى بترك الخطأ أذكركم بحفظ الوفاء، اذكرونى بالجهد بالخلقة أذكركم بأتمام النعمة، اذكرونى من حيث أنتم أذكركم من حيث أنا ولذكر الله أكبر.
الربيع في هذه الآية: إنّ الله ذاكر من ذكره، وزائدًا من شكره، ومعذّبُ من كفره.
وقال السّدي: فيها ليس من عبد يذكر الله إلاّ ذكره الله. لا يذكره مؤمن إلاّ ذكره بالرّحمة، ولا يذكره كافر إلاّ يذكره بعذاب.
وقال أبو عثمان النهدي: إنّي لأعلم حين يذكرني ربّي عزّ وجلّ، قيل: كيف ذلك؟
قال: إنّ الله عزّ وجلّ قال: {اذكروني أذكركم} وإذا ذكرت الله تعالى ذكرني. انتهى.

.قال الجصاص بعد أن ذكر بعض أقوال السلف في الآية:

وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي، وَجَمِيعُهَا مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى لِشُمُولِ اللَّفْظِ وَاحْتِمَالِهِ إيَّاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ وُجُوهِ الذِّكْرِ عَلَى اخْتِلَافِهَا رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ.
فَهُوَ كَاسْمِ الْإِنْسَانِ يَتَنَاوَلُ الْأُنْثَى وَالذَّكَرَ، وَالْأُخُوَّةُ تَتَنَاوَلُ الْإِخْوَةَ الْمُتَفَرِّقِينَ، وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ وَنَحْوُهَا، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنَّ الْوَجْهَ الَّذِي سُمِّيَ بِهِ الْجَمِيعُ مَعْنًى وَاحِدٌ.
وَكَذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ طَاعَتَهُ، وَالطَّاعَةُ تَارَةً بِالذِّكْرِ بِاللِّسَانِ، وَتَارَةً بِالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ، وَتَارَةً بِاعْتِقَادِ الْقَلْبِ، وَتَارَةً بِالْفِكْرِ فِي دَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ، وَتَارَةً فِي عَظَمَتِهِ، وَتَارَةً بِدُعَائِهِ وَمَسْأَلَتِهِ، جَازَ إرَادَةُ الْجَمِيعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، كَلَفْظِ الطَّاعَةِ نَفْسِهَا جَازَ أَنْ يُرَادَ بِهَا جَمِيعُ الطَّاعَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهَا مُطْلَقًا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وَكَالْمَعْصِيَةِ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ جَمِيعَهَا لَفْظُ النَّهْيِ.
فَقَوْلُهُ: {فَاذْكُرُونِي} قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِسَائِرِ وُجُوهِ الذِّكْرِ، وَمِنْهَا سَائِرُ وُجُوهِ طَاعَتِهِ وَهُوَ أَعَمُّ الذِّكْرِ، وَمِنْهَا ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالذِّكْرِ عَلَى وَجْهِ الشُّكْرِ وَالِاعْتِرَافِ بِنِعَمِهِ.
وَمِنْهَا ذِكْرُهُ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَيْهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى دَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَذِكْرُهُ بِالْفِكْرِ فِي دَلَائِلِهِ وَآيَاتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَهَذَا أَفْضَلُ الذِّكْرِ وَسَائِرُ وُجُوهِ الذِّكْرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ وَتَابِعَةٌ لَهُ وَبِهِ يَصِحُّ مَعْنَاهَا لِأَنَّ الْيَقِينَ وَالطُّمَأْنِينَةَ بِهِ تَكُونُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ذِكْرَ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْفِكْرُ فِي دَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُجَجِهِ وَآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَكُلَّمَا ازْدَدْت فِيهَا فِكْرًا ازْدَدْت طُمَأْنِينَةً وَسُكُونًا.
وَهَذَا هُوَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَذْكَارِ إنَّمَا يَصِحُّ وَيَثْبُتُ حُكْمُهَا بِثُبُوتِهِ. اهـ.